فصل: فصل: (نور النبوة يعمى تلك البصائر ويخطفها لشدته وضعفها):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى (نسخة منقحة)



.غباوة اليهود ونقضهم للعهود وتحريفهم وحسدهم هو الغاية:

اليهود قتلة الأنبياء وآكلة الربا والمنفردون بغاية الخبث والبهت.
وأما اليهود فقد حكى الله لك عن جهل أسلافهم وغباوتهم وضلالهم ما يدل على ما وراءه من ظلمات الجهل التي بعضها فوق بعض، ويكفي في ذلك عبادتهم العجل الذي صنعته أيديهم من ذهب، ومن عبادتهم أن جعلوه على صورة أبلد الحيوان وأقله فطانة الذي يضرب المثل به في قلة الفهم، فانظر إلى هذه الجهالة والغباوة المتجاوزة للحد كيف عبدوا مع الله إلها آخر وقد شاهدوا من أدلة التوحيد وعظمة الرب وجلاله ما يشاهده سواهم؟!! وإذ قد عزموا على اتخاذ إله دون الله فاتخذوه ونبيهم حي بين أظهرهم لم ينتظروا موته! وإذ قد فعلوا فلم يتخذوه من الملائكة المقربين ولا من الأحياء الناطقين بل اتخذوه من الجمادات! وإذ قد فعلوا فلم يتخذوه من الجواهر العلوية كالشمس والقمر والنجوم بل من الجواهر الأرضية! وإذ قد فعلوا فلم يتخذوه من الجواهر التي خلقت فوق الأرض عالية عليها كالجبال ونحوها بل من جواهر لا تكون إلا تحت الأرض والصخور والأحجار عالية عليها! وإذ قد فعلوا فلم يتخذوه من جوهر يستغني عن الصنعة وإدخال النار وتقليبه وجوها مختلفة وضربه بالحديد وسبكه بل من جوهر يحتاج إلى نيل الأيدي له بضروب مختلفة وإدخاله النار وإحراقه واستخراج خبثه! وإذ قد فعلوا فلم يصوغوه على تمثال ملك كريم ولا نبي مرسل ولا على تمثال جوهر علوي لا تناله الأيدي بل على تمثال حيوان أرضي! وإذ قد فعلوا فلم يصوغوه على تمثال أشرف الحيوانات وأقواها وأشدها امتناعا من الضيم كالأسد والفيل ونحوهما بل صاغوه على تمثال أبلد الحيوان وأقبله للضيم والذل بحيث يحرث عليه الأرض ويسقى عليه بالسواقي والدواليب ولا له قوة يمتنع بها من كبير ولا صغير. فأي معرفة لهؤلاء بمعبودهم ونبيهم وحقائق الموجودات؟!! وحقيق بمن سأل نبيه أن يجعل له إلها فيعبد إلها مجعولا بعد ما شاهد تلك الآيات الباهرات أن لا يعرف حقيقة الإله ولا أسماءه وفاته ونعوته ودينه، ولا يعرف حقيقة المخلوق وحاجته وفقره. ولو عرف هؤلاء معبودهم ورسولهم لما قالوا لنبيهم: {لَن نُؤمِنَ لَكَ حَتى نَرى اللَهَ جَهرَةً} ولا قالوا له: {اذهَب أَنت وَرَبُكَ فَقاتِلا} ولا قتلوا نفسا وطرحوا المقتول على أبواب البرآء من قتله ونبيهم حي بين أظهرهم وخبر السماء والوحي يأتيه صباحا ومساء، فكأنهم جوزوا أن يخفى هذا على الله كما يخفى على الناس؟! ولو عرفوا معبودهم لما قالوا في بعض مخاطباتهم له: يا أبانا انتبه من رقدتك، كم تنام ولو عرفوه لما سارعوا إلى محاربة أنبيائه وقتلهم وحبسهم ونفيهم ولما تحيلوا على تحليل محارمه وإسقاط فرائضه بأنواع الحيل. ولقد شهدت التوراة بعدم فطانتهم وأنهم من الأغبياء، ولو عرفوه لما حجروا عليه بعقولهم الفاسدة أن يأمر بالشيء في وقت لمصلحة ثم يزيل الأمر به في وقت آخر لحصول المصلحة وتبدله بما هو خير منه وينهي عنه ثم يبيحه في وقت آخر لاختلاف الأوقات والأحوال في المصالح والمفاسد، كما هو مشاهد في أحكامه القدرية الكونية التي لا يتم نظام العالم ولا مصلحته إلا بتبديلها واختلافها بحسب الأحوال والأوقات والأماكن والأحوال لأهلك الحرث والنسل وعد من الجهال، فكيف يحجر على طبيب القلوب والأديان أن تتبدل أحكامه بحسب اختلاف المصالح؟ وهل ذلك إلا قدح في حكمته ورحمته وقدرته وملكه التام وتدبيره لخلقه؟!! ومن جهلهم بمعبودهم ورسوله وأمره أنهم أمروا أن يدخلوا باب المدينة التي فتحها الله عليهم سجدا ويقولوا حطة، فيدخلوا متواضعين لله سائلين منه أن يحط عنهم خطاياهم، فدخلوا يزحفون على أستاهم بدل السجود لله، ويقولون: هنطا سقمانا أي حنطة سمرا، فذلك سجودهم وخشوعهم، وهذا استغفارهم واستقالتهم من ذنوبهم.
ومن جهلهم وغباوتهم أن الله سبحانه أراهم من آيات قدرته وعظيم سلطانه وصدق رسوله مالا مزيد عليه، ثم أنزل عليهم بعد ذلك كتابه وعهد إليهم فيه عهده وأمرهم أن يأخذوه بقوة فيعبدوه بما فيه كما خلصهم من عبودية فرعون والقبط فأبوا أن يقبلوا ذلك وامتنعوا منه، فنتق الجبل العظيم فوق رؤوسهم على قدرهم، وقيل لهم أن لم تقبلوا أطبقته عليكم فقبلوه من تحت الجبل، قال ابن عباس: رفع الله الجبل فوق رؤوسهم وبعث نارا من قبل وجوههم، وأتاهم البحر من تحتهم، ونودوا إن لم تقبلوا أرضختكم بهذا، وأحرقتكم بهذا، وأغرقتكم بهذا، فقبلوه، وقالوا سمعنا وأطعنا ولولا الجبل ما أطعناك ولما امنوا بعد ذلك قالوا {سمعنا وعصينا} ومن جهلهم أنهم شاهدوا الآيات ورأوا العجائب التي يؤمن على بعضها البشر ثم قالوا بعد ذلك {لَن نُؤمِنَ لَكَ حَتى نَرى اللَهَ جَهرَةً} وكان الله سبحانه قد أمر موسى أن يختار من خيارهم سبعين رجلا لميقاته فاختارهم موسى وذهب بهم إلى الجبل، فلما دنى موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل، وقال للقوم ادنوا ودنى القوم حتى إذا دخلوا في الحجاب وقعوا سجدا، فسمعوا الرب تعالى وهو يكلم موسى ويأمره وينهاه ويعهد إليه، فلما انكشف الغمام قالوا {لَن نُؤمِنَ لَك حَتى نَرى اللَهَ جَهرَةً} ومن جهلهم أن هارون لما مات ودفنه موسى قالت بنو إسرائيل لموسى أنت قتلته حسدته على خلقه ولينه ومحبة بني إسرائيل له، قال فاختاروا سبعين رجلا فوقفوا على قبر هارون، فقال موسى يا هارون أقتلت أم مت. قال: بل مت وما قتلني أحد. فحسبك من جهالة أمة وجفائهم أنهم اتهموا نبيهم ونسبوه إلى قتل أخيه فقال موسى ما قتلته فلم يصدقوه حتى أسمعهم كلامه وبراءة أخيه مما رموه به.
ومن جهلهم أن الله سبحانه شبههم في حملهم التوراة وعدم الفقه فيها والعمل بها بالحمار يحمل أسفارا، وفي هذا التشبيه من النداء على جهالتهم وجوه متعددة: منها: أن الحمار من أبلد الحيوانات التي يضرب بها المثل في البلادة ومنها: أنه لو حمل غير الأسفار من طعام أو علف أو ماء لكان له به شعور بخلاف الأسفار. ومنها: أنهم حملوها لا أنهم حملوها طوعا واختيارا بل كانوا كالمكلفين لما حملوه لم يرفعوا به رأسا. ومنها: أنهم حيث حملوها تكليفا وقهرا لم يرضوا بها ولم يحملوها رضا واختيارا وقد علموا أنهم لا بد لهم منها، وأنهم إن حملوها اختيارا كانت لهم العاقبة في الدنيا والآخرة. ومنها: أنها مشتملة على مصالح معاشهم ومعادهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة فأعراضهم عن التزام ما فيه سعادتهم وفلاحهم إلى ضده من غاية الجهل والغباوة وعدم الفطانة. ومن جهلهم وقلة معرفتهم أنهم طلبوا عوض المن والسلوى اللذين هما أطيب الأطعمة وأنفعها وأوفقها للغذاء الصالح البقل والقثاء والثوم والعدس والبصل، ومن رضي باستبدال هذه الأغذية عوضا عن المن والسلوى لم يكثر عليه أن يستبدل الكفر بالإيمان والضلالة بالهدى والغضب بالرضا والعقوبة بالرحمة، وهذه حال من لم يعرف ربه ولا كتابه ولا رسوله ولا نفسه.
وأما نقضهم ميثاقهم، وتبديلهم أحكام التوراة، وتحريفهم الكلم عن مواضعه، وأكلهم الربا وقد نهوا عنه، وأكلهم الرشا، واعتدائهم في السبت حتى مسخوا قردة وقتلهم الأنبياء بغير حق، وتكذيبهم عيسى بن مريم رسول الله، ورميهم له ولأمة بالعظائم، وحرصهم على قتله، وتفردهم دون الأمم بالخبث والبهت، وشدة تكالبهم على الدنيا وحرصهم عليها، وقسوة قلوبهم، وحسدهم، وكثرة سخرهم: فإليه النهاية. وهذا وأضعافه من الجهل وفساد العقل قليل على من كذب رسل الله وجاهر بمعاداته ومعاداة ملائكته وأنبيائه وأهل ولايته، فأي شيء عرف من لم يعرف الله ورسله؟! وأي حقيقة أدرك من فاتته هذه الحقيقة؟ وأي علم أو عمل حصل لمن فاته العلم بالله، والعمل بمرضاته، ومعرفة الطريق الموصلة إليه، ومآله بعد الوصول إليه.

.إشراق الأرض بالنبوة وظلمتها بفقدها المعرض عنها يتقلب في ظلمات والمؤمن في أنوار:

فأهل الأرض كلهم في ظلمات الجهل والغي إلا من أشرق عليه نور النبوة، كما في المسند وغيره من حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله خلق خلقه في ظلمة وألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل، فلذلك أقول جف القلم على علم الله» ولذلك بعث الله رسله ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، فمن أجابهم خرج إلى الفضاء والنور والضياء، ومن لم يجبهم بقي في الضيق والظلمة التي خلق فيها، وهي: ظلمة الطبع، وظلمة الجهل، وظلمة الهوى، وظلمة الغفلة عن نفسه وكمالها وما تسعد به في معاشها ومعادها. فهذه جملتها ظلمات خلق فيها العبد، فبعث الله رسله لإخراجه منها إلى العلم والمعرفة والإيمان والهدى الذي لا سعادة للنفس بدونه البتة، فمن أخطأه هذا النور أخطأه حظه، وكماله وسعادته وصار يتقلب في ظلمات بعضها فوق بعض، فمدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، وقوله ظلمة، وعمله ظلمة، وقصده ظلمة، وهو متخبط في ظلمات طبعه وهواه وجهله، وقلبه مظلم، ووجهه مظلم، لأنه يبقى على الظلمة الأصلية، ولا يناسبه من الأقوال والأعمال والإرادات والعقائد إلا ظلماتها، فلو أشرق له شيء من نور النبوة لكان بمنزلة إشراق الشمس على بصائر الخفاش:
بَصائِرٌ أَغشاها النَهارُ بِضوئِهِ ** وَلائِمُها قَطعٌ مِنَ اللَيلِ مُظلِمُ

.فصل: (نور النبوة يعمى تلك البصائر ويخطفها لشدته وضعفها):